خرافة الغلوتين الكبرى.. لماذا أقنعونا أن القمح سيئ إلى هذا الحد؟
سألت نفسي كثيرا، لماذا أتّبع هذا النظام الغذائي؟ في الماضي كنت أرى أنه لا مانع من تناول منتجات الألبان والغلوتين، لكنني الآن أعتقد أن لدينا حياة واحدة نعيشها وأود أن أعيشها بأفضل قدر من الصحة والحيوية”
النجمة الأميركية “كورتني كارداشيان”، متحدثة عن قيامها وأطفالها الثلاثة بالتخلص من الغلوتين ومنتجات الألبان من وجباتهم الغذائية(1)
تعد “كورتني كارداشيان” مجرد مثال واحد في قائمة المشاهير الذين خرجوا معلنين تخليهم عن الأطعمة المحتوية على الغلوتين. مثال آخر بارز هو لاعب الكرة المصري “محمد صلاح” الذي أكد، خلال أحد اللقاءات التلفزيونية، أنه يتناول خلال وجبة الإفطار خبزا خاليا من الغلوتين(2). ربما تغريك هذه التصريحات أنت أيضا بأن اتباع نظام غذائي خال من الغلوتين يدعم صحتك ويعزز لياقتك، خاصة مع غزو هذه الأطعمة أرفف متاجر البقالة ومحلات البيع بالتجزئة، لكن هل يستحق الأمر هذا العناء؟ وهل يتعين عليك فعلا بذل الجهد ودفع المزيد من المال من أجل تجنب تناول الغلوتين في طعامك؟
الغلوتين هو مجموعة من البروتينات موجودة بشكل طبيعي في بعض الحبوب مثل القمح والشعير والجاودار. بروتينات الغلوتين تتميز بكونها مرنة للغاية، وهذا هو السبب في أن الحبوب المحتوية على الغلوتين مناسبة لصنع المخبوزات. تخيل صانع بيتزا وهو يقذف ويمد كرة من العجين، بدون الغلوتين سوف ينشق العجين بسهولة(3)(4).
يُقدم كثيرون اليوم الغلوتين على أنه الشرير الغذائي للقرن الحادي والعشرين، ويلقون باللوم عليه في العديد من الأمراض، بل إنهم يقترحون حظره تماما من قوائم غذاء البشر. والسبب الرئيسي وراء ذلك هو أن أجسامنا لا تمتلك الإنزيمات المناسبة لتفكيك البروتينات المعقدة الموجودة في الغلوتين.
غير أن هذه التحذيرات المبالغ فيها تتجاهل حقيقة أن البشر تناولوا القمح على مدار أكثر من 10 آلاف عام دون مشكلات تُذكر(5). بخلاف ذلك، لا يوجد سوى القليل من الأبحاث المنشورة التي تدعم الادعاءات المنتشرة حول أضرار الغلوتين. في الواقع فإن المشكلة الأساسية المعروفة بـ”عدم تحمل الغلوتين” ليست مشكلة عامة، بل مرتبطة بأشخاص بعينهم يعانون من هذا النوع من الاضطراب.
يُشير مصطلح “عدم تحمل الغلوتين” إلى 3 أنواع من الاضطرابات الصحية، أولها هو مرض الاضطرابات الهضمية أو “اعتلال الأمعاء الحساسة للغلوتين”، وهو مرض مناعي ذاتي التهابي ناتج عن عوامل وراثية وبيئية(6). والثاني هو حساسية القمح، وهو أكثر شيوعا لدى الأطفال، ولكنه يمكن أن يؤثر على البالغين أيضا. أما النوع الثالث فهو التحسس الغلوتيني اللابطني(7). في هذه الحالات، ربما تتسبب إزالة الغلوتين من النظام الغذائي في عكس الأضرار، وفي حالة مرض الاضطرابات الهضمية تحديدا، يكون النظام الغذائي الخالي من الغلوتين هو العلاج الطبي الأساسي(4).
مزاعم غير حقيقية
يزعم بعض المروجين للأطعمة الخالية من الغلوتين أنه يُسبب زيادة غير مرغوب بها في الوزن، لكن تشير الأدلة إلى أن مستويات استهلاك الغلوتين ليست مرتبطة بمعدل السعرات الحرارية اليومية ولا بمؤشر كتلة الجسم.
يزعم بعض المروجين للأطعمة الخالية من الغلوتين أنه يُسبب زيادة غير مرغوب بها في الوزن، لكن تشير الأدلة إلى أن مستويات استهلاك الغلوتين ليست مرتبطة بمعدل السعرات الحرارية اليومية ولا بمؤشر كتلة الجسم. (شترستوك)
لكن في حين أن تجنب الغلوتين قد يكون مفيدا في التغلب على بعض الحالات المرضية، فإن الكثير من الادعاءات التي يُروج لها حول مخاطره على الأصحاء لم تثبت علميا. على رأس هذه الادعاءات الزعم بأن ببتيدات الغلوتين تدخل مجرى الدم وتسبب التهابا جهازيا (Systemic inflammation)، وهو ادعاء تثبت الدراسات العلمية خطأه تماما.
هدفت دراسة نُشرت عام 2021 إلى تحديد العلاقة بين تناول الغلوتين وخطر الإصابة ببعض الاضطرابات المعوية الالتهابية (IBD) وعلى رأسها مرض كرون والتهاب القولون التقرحي، وخلصت إلى عدم وجود أي علاقة بين الأمرين(11). تُبرّئ هذه النتيجة الغلوتين بالتبعية من اتهامات التسبب في الالتهابات الجهازية، والسبب في ذلك ببساطة هو أن ببتيدات الغلوتين تنتقل من تجويف الأمعاء إلى الدم بكميات منخفضة للغاية، وبمجرد وصول هذه الببتيدات إلى الدم فإنها تتحلل بسرعة وتفقد قدرتها على القيام بأي نشاط بيولوجي(7).
أيضا يدّعي البعض أن التخلص من الغلوتين يقوي الإدراك ويُحسّن التركيز بشكل عام، لكن ما تشير الأدلة إليه هو أن الأشخاص الذين يتناولون الغلوتين ولديهم حساسية شديدة تجاهه، مثل المرضى المصابين بمرض الاضطرابات الهضمية، هم فقط الذين يكونون أكثر عرضة للإصابة بضعف الإدراك بسبب الغلوتين، فالأدلة حول حالة ضعف التركيز أو ما يُعرف بـ”ضباب الدماغ” شائعة فقط لدى الأشخاص الذين شُخّصوا بمرض الاضطرابات الهضمية وتناولوا طعاما يحتوي على الغلوتين عن طريق الخطأ.
أما في حالة الأشخاص الذين لا يعانون من حساسية تجاه الغلوتين، فإن تجنب الغلوتين لن يشحذ قدراتهم العقلية. هذا ما تؤكده دراسة كبيرة، قامت بمتابعة ما يقرب من 13,500 امرأة في منتصف العمر لا يعانين من مرض الاضطرابات الهضمية، لمدة 28 عاما، لملاحظة أي روابط محتملة بين تناول الغلوتين والقدرات العقلية. أوضحت نتائج الدراسة أنه لم يكن هناك دليل إحصائي على وجود أي ارتباط بين تناول الغلوتين على المدى الطويل أو القصير مع الوظيفة الإدراكية. تشير هذه النتائج إلى أنه في حال عدم وجود مرض الاضطرابات الهضمية، لا يوجد ما يبرر تقييد الغلوتين الغذائي للحفاظ على الوظيفة الإدراكية(12).
كذلك يزعم بعض المروجين للأطعمة الخالية من الغلوتين أنه يُسبب زيادة غير مرغوب بها في الوزن. حققت دراسة حديثة في هذا الادعاء وخلصت إلى أنه لا يوجد دليل على أن ببتيدات الغلوتين تؤثر على مراكز التحكم في الشهية في الدماغ أو تغير من مُعدلات الحرق، مؤكدة أن الأدلة تشير إلى أن مستويات استهلاك الغلوتين ليست مرتبطة بمعدل السعرات الحرارية اليومية ولا بمؤشر كتلة الجسم(13).
فوائد محتملة
أشارت إحدى الدراسات إلى أن تجنب الغلوتين أدى إلى تقليل استهلاك الناس للحبوب الكاملة المفيدة، الأمر الذي قد يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية على المدى الطويل.
أشارت إحدى الدراسات إلى أن تجنب الغلوتين أدى إلى تقليل استهلاك الناس للحبوب الكاملة المفيدة، الأمر الذي قد يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية على المدى الطويل. (شترستوك)
في مقابل ذلك تماما، تخلص الأدبيات العلمية والسريرية الحالية إلى أنه إذا لم تكن لدى الشخص حساسية من الغلوتين، فإن تناول الأطعمة التي تحتوي على الغلوتين ربما يكون مفيدا. خلال مقال نُشر له عبر موقع “سيكولوجي توداي”، يرى الدكتور “جاري إل وينك”، أستاذ علم المناعة وعلم الوراثة الطبية في جامعة ولاية أوهايو، أن الأدبيات العلمية، على العكس من النصائح الشعبية التي تصرّ على أن الغلوتين الغذائي ضار في المطلق، تخلص إلى أنه إذا لم تكن حساسا للغلوتين فإن تناول الأطعمة التي تحتوي عليه ربما يكون مفيدا لصحتك(6).
في الواقع، حذّر مؤلفو دراسة نُشرت في عام 2017 من أن “الأنظمة الغذائية الخالية من الغلوتين” روّج لها اختصاصيو تغذية غير مطلعين بدرجة كافية، وأنه لا يوجد ما يكفي من الأدلة الموثوقة على فوائد الاستغناء عن الغلوتين على المدى الطويل. بحثت الدراسة تحديدا في العلاقة بين استهلاك الغلوتين لفترة طويلة لدى البالغين غير المصابين بمرض الاضطرابات الهضمية وخطر الإصابة بأمراض القلب التاجية، واستنتجت أن تناول الغلوتين الغذائي لم يرتبط بخطر الإصابة بهذه الأمراض.
على العكس تماما، أشارت الدراسة إلى أن تجنب الغلوتين أدى إلى تقليل استهلاك الناس للحبوب الكاملة المفيدة، الأمر الذي قد يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية على المدى الطويل. اختتمت الدراسة نتائجها بأنه لا ينبغي تشجيع الترويج للأنظمة الغذائية الخالية من الغلوتين بين الأشخاص غير المصابين بمرض الاضطرابات الهضمية(8).
بشكل مماثل، ربطت العديد من الدراسات استهلاك الحبوب الكاملة بتحسين الحالة الصحية العامة. مثلا، وجدت دراسة أن الأشخاص الذين يتناولون كمية أعلى من الحبوب الكاملة بما في ذلك القمح، بين 2-3 حصص يوميا، كانوا أقل عرضة للإصابة بأمراض القلب والتعرض للسكتات الدماغية وتطور مرض السكري من النوع الثاني، مقارنة بالأشخاص الذين يتناولون أقل من حصتين يوميا(4).
لا تقف فوائد الغلوتين المحتملة عند هذا الحد، حيث أثبتت الدراسات أنه يلعب دورا في تغذية البكتيريا “الجيدة” في أجسامنا(9). مثلا، هناك “Arabinoxylan oligosaccharide”، وهو مركب مشتق من نخالة القمح ثبت أنه يحفز نشاط “بكتيريا البيفيدو (Bifidobacteria)” في القولون. توجد “بكتيريا البيفيدو” عادة في أمعاء الإنسان السليمة، وقد ارتبطت التغييرات السلبية في مقدارها أو نشاطها بالإصابة بأمراض الجهاز الهضمي بما في ذلك مرض التهاب الأمعاء وسرطان القولون والمستقيم ومتلازمة القولون العصبي(10).
تحقيق الربح من “اتهام” الغلوتين
الرابح الأول من هذه المعتقدات السائدة ليست صحة المستخدم كما قد يظن البعض، إنما هي الشركات المتخصصة في إنتاج الأطعمة والمأكولات الخالية من الغلوتين.
الرابح الأول من هذه المعتقدات السائدة ليست صحة المستخدم كما قد يظن البعض، إنما هي الشركات المتخصصة في إنتاج الأطعمة والمأكولات الخالية من الغلوتين. (شترستوك)
يشير موقع “healthline” إلى أن الابتعاد عن الغلوتين أصبح أكبر اتجاه صحي شائع في العقد الماضي(7)، وهو ما دفع الملايين من الأشخاص إلى التخلي عن الغلوتين على أمل فقدان الوزن وتحسين الحالة المزاجية والحصول على صحة أفضل، وذلك رغم كون الأدلة المقدمة على أضرار الغلوتين كانت مرتبكة ومثيرة للجدل في أدنى الأحوال.
على سبيل المثال، تُظهر البيانات المأخوذة من استقصاء الصحة الوطنية وفحص التغذية (NHANES) أن تجنب الغلوتين تضاعف 3 مرات في الولايات المتحدة من عام 2009 إلى عام 2014(4). ووفقا لمجموعة “NDP”، وهي منظمة لأبحاث السوق، يعتقد ما يقرب من 1 من كل 4 مستهلكين في الولايات المتحدة أن التخلص من الغلوتين أمر جيد للجميع، بالإضافة إلى أن نحو 11% من الأسر الأميركية تتبع نظاما غذائيا خاليا من الغلوتين(3).
الرابح الأول من هذه المعتقدات السائدة ليست صحة المستخدم كما قد يظن البعض، إنما هي الشركات المتخصصة في إنتاج الأطعمة والمأكولات الخالية من الغلوتين. لقد نمت صناعة الأغذية الخالية من الغلوتين بنسبة 136% من عام 2013 إلى عام 2015 وصولا إلى 12 مليار دولار، والمفاجأة أن الدراسات أظهرت أن الأشخاص الذين لا يعانون من مرض الاضطرابات الهضمية هم أكثر المشترين للمنتجات الخالية من الغلوتين(2).
ماذا إذن عن الشهادات المتكررة للأشخاص الذين أبلغوا عن تحسن حالتهم الصحية والمزاجية وفقدان الوزن بعد اتباعهم حمية خالية من الغلوتين؟ السبب في ذلك على الأرجح هو أن تجنب الغلوتين عادة ما يتضمن تقليص الأطعمة المصنعة، مثل الوجبات السريعة والمخبوزات والحبوب السكرية. لا تحتوي هذه الأطعمة على الغلوتين فقط، بل تحتوي أيضا على نسبة عالية من السعرات الحرارية والسكر والدهون غير الصحية. من المحتمل أن تُعزى الفوائد الصحية التي يذكرها الأشخاص الذين يتجنبون الغلوتين إلى استبعاد الأطعمة غير الصحية وليس إلى تجنب الغلوتين نفسه كما هو شائع(6).
المصدر :الجزيرة- ميدان