رمضان في سوريا .. أطباق غيبتها الأزمة و أحباب أبعدهم اللجوء
يجلس الحاج عمر الحلبي مع زوجته على مائدة الإفطار وحيدين للعام الثاني على التوالي، بعد أن شرّدت الحرب عائلته وقسّمت أفرادها بين البلدان، بل والقارات، كحال الكثير من العائلات السورية، التي باتت تجتمع على الإفطار “افتراضياً” للتواصل عبر المنصّات بالصوت والصورة إن ساعدهم الإنترنت على ذلك.
ووفق ما اوردت قناة “سكاي نيوز”، أثرت الحرب على السوريين ونالت من التقاليد الأسرية والاجتماعية الخاصة برمضان، فيما خيمت الأزمة الاقتصادية والمعيشية على ما تبقى من بهجة الموائد وعادات الأكل والشرب، التي تغيّرت بشكل كبير خلال فترة قصيرة جداً لتتناسب والموارد المالية المحدودة.
موائد إفطار “افتراضية”
ويسرد الرجل المسن البالغ 71 عاماً يوميّاته الرمضانية لهذا العام بالكثير من الأسى قائلاً “كلّ منهم أصبح في مكان، لم أتخيّل يوماً أنني سأجلس على مائدة الإفطار دون أبناء وأحفاد يحيطون بي، هذه الحرب سلبتنا كل شيء”.
تحافظ عائلة الحلبي على “عادات الجلوس” السابقة، فالحاجة أم أحمد ما زالت تجلس حول الطاولة الكراسي التي تفتقد من كانوا يجلسون حولها.
تقول المرأة الستينية “أبنائي ما زالوا معي، أشعر بوجودهم روحياً، وأعلم أننا سنجتمع مجدداً، وهذا ما يصبّرني على فراقهم”.
مع رفع الأذان معلناً انتهاء ساعات الصيام لذلك اليوم، تصب أم أحمد كأساً من الماء لزوجها ثم تباشر مهمتها في الاتصال مع الأولاد “نور قريب في لبنان، وتوقيت الافطار عندهم مشابه لتوقيتنا، لكن رنا وإبراهيم بعيدان جداً في النرويج وهولندا، لذلك فإن الاتصال معهم يكون بعد الانتهاء من تناول الإفطار بساعات، فعندئذ سيكونان قد أنهيا الإفطار أيضا”.
تبدو أم أحمد أكثر تفاؤلاً من زوجها، ولا تشاركه كمّ الحزن على الفراق “اشتاق إليهم، لكنني سعيدة بأن أحوالهم جيدة، نتحدّث ونضحك ونتبادل الأحاديث وكأننا مع بعضنا بعضا، وأحياناً حينما تكون سرعة الانترنت جيدة، تتشارك العائلة كلها في محادثة مشتركة”.
يقاطعها الحاج عمر قائلاً “الحمد لله الأحباء كثر، صحيح أن الأبن وابن الابن لهما مكانة خاصة، لكننا نحاول تعويض غيابهم باجتماع الأقارب والأصدقاء”، ثم يردف مازحاً “وحتى لا تبقى حجّة لدى أم أحمد للتقليل من أصناف الطعام والحلويات، فرمضان شهر الخير والبركة، وبركة سفرتها واجب”.
غابت اللحوم والحلويات عن موائد السوريين
فكرة البركة وتعداد أصناف الأطعمة والحلويات في الموائد الرمضانية، ليست حكراً على الحاج عمر، بل تكاد تشكّل جوهر عادات شائعة في رمضان، لكن هذه البركة تراجعت على مر السّنوات، حتى أصبحت اليوم حكراً على فئة من ميسوري الحال، في ظل الهوّة الشاسعة بين المدخول والأسعار.
يؤكد غسان، وهو صاحب محل بقالة في حي قدسيا، أحد الضواحي القريبة من العاصمة دمشق، أن “أسعار المواد ارتفعت مع حلول شهر رمضان بمقدار يتراوح بين 5 إلى 15 في المئة حسب النوع” مرجعاً ذلك بالدرجة الأولى إلى انخفاض قيمة العملة السورية بشكل شبه اليومي، لتصل إلى أدنى قيمة في تاريخها متجاوزة سقف 7500 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي الواحد، إضافة إلى ازدياد الطلب وحركة التبضّع التي تنشط مع حلول رمضان.
يقول غسّان “اختلفت أصناف البيع وكمّياتها، فالناس باتت تختصر في الشراء كثيراً ليقتصر تبضّعهم على الأساسيات كالأجبان والألبان والبيض، من أجل السحور بشكل خاص، بينما غدت المعلّبات ومكونات أخرى مثل الزبيب واللوز مثلاً من الكماليات”.
تعتبر اللحوم والحلويات، من أهم الأصناف الغائبة عن الموائد السورية في رمضان. فالسوريون الذين استبدلوا سابقاً لحوم الأغنام والعجول بالدجاج لرخصه، استبعدوا اليوم هذا الصنف أيضاً بعد أن وصلت أسعاره إلى مستويات غير مسبوقة، تفوق قدرة شرائح كبيرة من المواطنين من ذوي الدخل المحدود على اقتنائها.
أما بالنسبة للحلويات، فيؤكد موظف البيع في أحد أشهر محلات دمشق لبيع الحلويات العربية “لسكاي نيوز عربية”، مفضّلاً عدم الكشف عن اسمه أن “مبيعات المحل، الذي يعرف باسمه وجودته، قد تراجعت إلى نحو النصف مقارنة بالعام الماضي فقط”، وذلك بعد أن فاق سعر الكيلوغرام الواحد لبعض الأصناف الراتب الشهري الذي يحصل عليه موظف القطّاع العام في سوريا”.
واستعاض الكثير من السوريين عن الحلويات بـ “الناعم” أو “خبز رمضان”، الذي يعتبر من تقاليد رمضان أيضاً، وبات بعض الدمشقيين يقومون بتحضيره منزلياً وبيعه كنوع من العمل الإضافي، وقد وصل سعر الرغيف منه إلى 12 ألف ليرة سورية (1.6 دولار أمريكي)، في حين أن ثمنه في السنوات القليلة الماضية لم يكن يتجاوز ألفين ليرة سورية.
مبادرات لنجدة المحتاجين
ويروي حمدون، وهو اسم مستعار لحارس أحد الأبنية السكنية في ضاحية الشام الجديدة في العاصمة دمشق، “لسكاي نيوز عربية” عن رمضان هذا العام قائلاً “على الرغم من كون العديد من سكان البناء الذي أعمل فيه من ميسوري الحال، إلا أن خيرات العام الماضي لم تعد موجودة”.
مضيفاً “على عكس العام الماضي، حيث قام العديد من القاطنين بالتبرّع باللحوم والبقوليات والحلويات لعائلتي المتواضعة في حينه، فقد اقتصرت الهبات هذا العام على إعطائي قدرا من الطعام فقط فقط، حتى أنني لم أعد ألمح سيارات غريبة لزوّار أو مدعوين على الإفطار أو السحور، الناس يعانون الوضع نفسه”.
و”السكبة” عبارة عن تقليد يقوم فيه الجيران بتبادل بعض الأطعمة قبيل آذان المغرب، ويعتبر مشهد تبادل الوجبات الرمضانية من أقدم العادات الشامية التي ما تزال مستمرة إلى الآن، وسط حرص السوريين وتمسّكهم بها، نظراً لرمزيتها من ناحية الألفة من جهة وإطعام المحتاج بعيداً عن “التصدّق عليه” من جهة أخرى.
قبل قدوم رمضان تتجهّز العديد من الفعاليات الشبابية في دمشق وباقي المناطق السورية لمساعدة الصائمين من الفقراء بتقديم وجبات إفطار لهم، وقد اكتسبت هذه الفعاليات والمبادرات أهمية مع تراجع القدرة الشرائية للسوريين خلال سنوات الحرب.
وتروي الشابة الدمشقية هبة الزين “لسكاي نيوز عربية” تفاصيل المبادرة التي تقوم بها لمساعدة رفاقها خلال شهر رمضان قائلة “أرغب كثيراً بالعمل التطوعي ومساعدة الآخرين في هذا الشهر المبارك، وانطلاقاً من هذه الرغبة والحماس المتواجد بداخلي قررت أن أكمل مبادرة أطلقتها العام الماضي، والتي كانت عبارة عن جمع وجبات طعام من الأشخاص الذين يرغبون بالتبرع بها، وتوصيلها من منزل المتبرّع إلى منازل المحتاجين، سيما وأنني أملك سيارة وقادرة على القيام بذلك”.
وتضيف الزين “تطورت هذه المبادرة هذا العام إلى مطبخ رمضاني بمساهمة 19 شخص وأطلقت عليه اسم “سكبة الخير”، وبدل التوزيع من خلال سيارة واحدة أصبحنا نوزّع بثلاث سيارات. وأبرز ما يميز المطبخ هو روح التعاون والرغبة بمساعدة الآخرين بلا أي مقابل، حيث يقوم بإعداد الطعام سيدتان وباقي الفريق يتولى مهمة تبريد وتعبئة الطعام وتوزيعه”.
وتختم الزين حديثها بالقول “لا فرحة أكبر من ابتسامة صائم يحتار في انتقاء كلمات شكرك حين تسلّم وجبته”.